فصل: (سورة العنكبوت: آية 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة العنكبوت: الآيات 51- 52]:

{أَوَلَمْ يَكْفهمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكتابَ يُتْلى عَلَيْهمْ إنَّ في ذلكَ لَرَحْمَةً وَذكْرى لقَوْمٍ يُؤْمنُونَ (51) قُلْ كَفى باللَّه بَيْني وَبَيْنَكُمْ شَهيدًا يَعْلَمُ ما في السَّماوات وَالْأَرْض وَالَّذينَ آمَنُوا بالْباطل وَكَفَرُوا باللَّه أُولئكَ هُمُ الْخاسرُونَ (52)}.
قرئ: آية، وآيات. أرادوا: هلا أنزل عليه آية مثل ناقة صالح ومائدة عيسى عليهما السلام ونحو ذلك {إنَّمَا الْآياتُ عنْدَ اللَّه} ينزل أيتها شاء، ولو شاء أن ينزل ما تقترحونه لفعل و{إنَّما أَنَا نَذير} كلفت الإنذار وإبانته بما أعطيت من الآيات، وليس لي أن أتخير على اللّه آياته فأقول، أنزل علىّ آية كذا دون آية كذا، مع علمى أنّ الغرض من الآية ثبوت الدلالة، والآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك، ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفهمْ} آية مغنية عن سائر الآيات- إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين- هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحلّ، كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكان دون مكان. إنّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر {لَرَحْمَةً} لنعمة عظيمة لا تشكر. وتذكرة {لقَوْمٍ يُؤْمنُونَ} وقيل: أو لم يكفهم، يعني اليهود: أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك. وقيل: إنّ ناسا من المسلمين أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما أن نظر إليها ألقاها وقال: كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم، فنزلت. والوجه ما ذكرناه.
{كَفى باللَّه بَيْني وَبَيْنَكُمْ شَهيدًا} أني قد بلغتكم ما أرسلت به إليكم وأنذرتكم، وأنكم قابلتمونى بالجحد والتكذيب.
{يَعْلَمُ ما في السَّماوات وَالْأَرْض} فهو مطلع على أمرى وأمركم، وعالم بحقي وباطلكم.
{وَالَّذينَ آمَنُوا بالْباطل} منكم وهو ما تعبدون من دون اللّه {وَكَفَرُوا باللَّه} وآياته {أُولئكَ هُمُ الْخاسرُونَ} المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان، إلا أن الكلام ورد مورد الإنصاف، كقوله: {وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ في ضَلالٍ مُبينٍ} وكقول حسان:
فشر كما لخير كما الفداء

وروى أنّ كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد، من يشهد لك بأنك رسول اللّه، فنزلت.

.[سورة العنكبوت: الآيات 53- 55]:

{وَيَسْتَعْجلُونَكَ بالْعَذاب وَلَوْلا أَجَل مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجلُونَكَ بالْعَذاب وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحيطَة بالْكافرينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ منْ فَوْقهمْ وَمنْ تَحْت أَرْجُلهمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}.
كان استعجال العذاب استهزاء منهم وتكذيبا، والنضر بن الحرث هو الذي قال: اللهم أمطر علينا حجارة من السماء، كما قال أصحاب الأيكة: فأسقط علينا كسفا من السماء {وَلَوْلا أَجَل} قد سماه اللّه وبينه في اللوح لعذابهم، وأوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الأجل المسمى {لَجاءَهُمُ الْعَذابُ} عاجلا. والمراد بالأجل: الآخرة، لما روى أنّ اللّه تعالى وعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن لا يعذب قومه ولا يستأصلهم، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة.
وقيل: يوم بدر. وقيل: وقت فنائهم بآجالهم {لَمُحيطَة} أي ستحيط بهم {يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ} أو هي محيطة بهم في الدنيا: لأنّ المعاصي التي توجبها محيطة بهم. أو لأنها مآلهم ومرجعهم لا محالة فكأنها الساعة محيطة بهم. و{يَوْمَ يَغْشاهُمُ} على هذا منصوب بمضمر، أي: يوم يغشاهم العذاب كان كيت وكيت. {منْ فَوْقهمْ وَمنْ تَحْت أَرْجُلهمْ} كقوله تعالى: {لَهُمْ منْ فَوْقهمْ ظُلَل منَ النَّار وَمنْ تَحْتهمْ ظُلَل} {وَيَقُولُ} قرئ بالنون والياء {ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي جزاءه.

.[سورة العنكبوت: آية 56]:

{يا عباديَ الَّذينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضي واسعَة فَإيَّايَ فَاعْبُدُون (56)}.
معنى الآية: أنّ المؤمن إذا لم يتسهل له العبادة في بلد هو فيه ولم يتمش له أمر دينه كما يحب فليهاجر عنه إلى بلد يقدّر أنه فيه أسلم قلبا وأصح دينا وأكثر عبادة وأحسن خشوعا. ولعمري إن البقاع تتفاوت في ذلك التفاوت الكثير، ولقد جرّبنا وجرّب أوّلونا، فلم نجد فيما درنا وداروا: أعون على قهر النفس وعصيان الشهوة وأجمع للقلب المتلفت وأضم للهم المنتشر وأحث على القناعة وأطرد للشيطان وأبعد من كثير من الفتن وأضبط للأمر الديني في الجملة- من سكنى حرم اللّه وجوار بيت اللّه، فللّه الحمد على ما سهل من ذلك وقرب، ورزق من الصبر وأوزع من الشكر. وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد» وقيل: هي في المستضعفين بمكة الذين نزل فيهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّه واسعَةً فَتُهاجرُوا} فيها وإنما كان ذلك لأنّ أمر دينهم ما كان يستتب لهم بين ظهراني الكفرة.
{فَإيَّايَ فَاعْبُدُون} في المتكلم، نحو: إياه ضربته، في الغائب وإياك عضتك، في المخاطب. والتقدير: فإياى فاعبدوا: فاعبدون. فإن قلت: ما معنى الفاء في {فَاعْبُدُون} وتقديم المفعول؟ قلت: الفاء جواب شرط محذوف، لأنّ المعنى: إنّ أرضى واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها لي في غيرها، ثم حذف الشرط وعوّض من حذفه تقديم المفعول، مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص والإخلاص.

.[سورة العنكبوت: آية 57]:

{كُلُّ نَفْسٍ ذائقَةُ الْمَوْت ثُمَّ إلَيْنا تُرْجَعُونَ (57)}.
لما أمر عباده بالحرص على العبادة وصدق الاهتمام بها حتى يتطلبوا لها أوفق البلاد وإن شسعت، أتبعه قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذائقَةُ الْمَوْت} أي واجدة مرارته وكربه كما يجد الذائق طعم المذوق. ومعناه: إنكم ميتون فواصلون إلى الجزاء، ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بد من التزود لها والاستعداد بجهده.

.[سورة العنكبوت: الآيات 58- 59]:

{وَالَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحات لَنُبَوّئَنَّهُمْ منَ الْجَنَّة غُرَفًا تَجْري منْ تَحْتهَا الْأَنْهارُ خالدينَ فيها نعْمَ أَجْرُ الْعاملينَ (58) الَّذينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبّهمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)}.
{لَنُبَوّئَنَّهُمْ} لننزلنهم {منَ الْجَنَّة} علالي. وقرئ: لنثوّينهم، من الثواء وهو النزول للإقامة.
يقال: ثوى في المنزل، وأثوى هو، وأثوى غيره وثوى: غير متعد، فإذا تعدى بزيادة همزة النقل لم يتجاوز مفعولا واحدا، نحو: ذهب، وأذهبته. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف: إمّا إجراؤه مجرى لننزلنهم ونبوئنهم. أو حذف الجار وإيصال الفعل: أو تشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. وقرأ يحيى بن وثاب: فنعم، بزيادة الفاء {الَّذينَ صَبَرُوا} على مفارقة الأوطان والهجرة لأجل الدين. وعلى أذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، وعلى الطاعات، وعن المعاصي، ولم يتوكلوا في جميع ذلك إلا على اللّه.

.[سورة العنكبوت: آية 60]:

{وَكَأَيّنْ منْ دَابَّةٍ لا تَحْملُ رزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإيَّاكُمْ وَهُوَ السَّميعُ الْعَليمُ (60)}.
لما أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة، خافوا الفقر والضيعة، فكان يقول الرجل منهم: كيف أقدم بلدة ليست لي فيها معيشة، فنزلت. والدابة: كل نفس دبت على وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل. {تَحْملُ رزْقَهَا} لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله {اللَّهُ يَرْزُقُها وَإيَّاكُمْ} أي لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا اللّه، ولا يرزقكم أيضا أيها الأقوياء إلا هو وإن كنتم مطيقين لحمل أرزاقكم وكسبها، لأنه لو لم يقدركم ولم يقدّر لكم أسباب الكسب، لكنتم أعجز من الدواب التي لا تحمل، وعن الحسن {لا تَحْملُ رزْقَهَا} لا تدّخره، إنما تصبح فيرزقها اللّه. وعن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة.
وعن بعضهم: رأيت البلبل يحتكر في حضنيه. ويقال: للعقعق مخابئ إلا أنه ينساها {وَهُوَ السَّميعُ} لقولكم: نخشى الفقر والضيعة {الْعَليمُ} بما في ضمائركم.

.[سورة العنكبوت: آية 61]:

{وَلَئنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوات وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)}.
الضمير في {سَأَلْتَهُمْ} لأهل مكة {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} فكيف يصرفون عن توحيد اللّه وأن لا يشركوا به، مع إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض.

.[سورة العنكبوت: آية 62]:

{اللَّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لمَنْ يَشاءُ منْ عباده وَيَقْدرُ لَهُ إنَّ اللَّهَ بكُلّ شَيْءٍ عَليم (62)}.
قدر الرزق وقتره بمعنى إذا ضيقه. فإن قلت: الذي رجع إليه الضمير في قوله: {وَيَقْدرُ لَهُ} هو من يشاء، فكأن بسط الرزق وقدره جعلا لواحد. قلت: يحتمل الوجهين جميعا: أن يريد ويقدر لمن يشاء، فوضع الضمير موضع من يشاء، لأن {لمَنْ يَشاءُ} مبهم غير معين، فكان الضمير مبهما مثله، وأن يريد تعاقب الأمرين على واحد على حسب المصلحة {إنَّ اللَّهَ بكُلّ شَيْءٍ} عَليم يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم.

.[سورة العنكبوت: آية 63]:

{وَلَئنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ منَ السَّماء ماءً فَأَحْيا به الْأَرْضَ منْ بَعْد مَوْتها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُل الْحَمْدُ للَّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقلُونَ (63)}.
استحمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به ثم نفعه ذلك في توحيد اللّه ونفى الأنداد والشركاء عنه، ولم يكن إقرارا عاطلا كاقرار المشركين، وعلى أنهم أقروا بما هو حجة عليهم حيث نسبوا النعمة إلى اللّه وقد جعلوا العبادة للصنم، ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقلُونَ} ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد. أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد للّه، ولا يفطنون لم حمدت اللّه عند مقالتهم؟

.[سورة العنكبوت: آية 64]:

{وَما هذه الْحَياةُ الدُّنْيا إلاَّ لَهْو وَلَعب وَإنَّ الدَّارَ الْآخرَةَ لَهيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)}.
هذه فيها ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها، وكيف لا يصغرها وهي لا تزن عنده جناح بعوضة. يريد: ما هي- لسرعة زوالها عن أهلها وموتهم عنها- إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثم يتفرقون {وَإنَّ الدَّارَ الْآخرَةَ لَهيَ الْحَيَوانُ} أي ليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة خالدة لا موت فيها، فكأنها في ذاتها حياة. والحيوان: مصدر حي، وقياسه حييان، فقلبت الياء الثانية واوا، كما قالوا: حيوة، في اسم رجل، وبه سمى ما فيه حياة: حيوانا. قالوا: اشتر من الموتان، ولا تشتر من الحيوان. وفي بناء الحيوان زيادة معنى ليس في بناء الحياة، وهي ما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب، كالنزوان والنغصان واللهبان، وما أشبه ذلك. والحياة: حركة، كما أن الموت سكون، فمجيئه على بناء دال على معنى الحركة، مبالغة في معنى الحياة، ولذلك اختيرت على الحياة في هذا الموضع المقتضى للمبالغة {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} فلم يؤثروا الحياة الدنيا عليها.

.[سورة العنكبوت: الآيات 65- 66]:

{فَإذا رَكبُوا في الْفُلْك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلصينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرّ إذا هُمْ يُشْركُونَ (65) ليَكْفُرُوا بما آتَيْناهُمْ وَليَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)}.
فإن قلت: بم اتصل قوله: {فَإذا رَكبُوا}؟ قلت: بمحذوف دلّ عليه ما وصفهم به وشرح من أمرهم، معناه: هم على ما وصفوا به من الشرك والعناد {فَإذا رَكبُوا في الْفُلْك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلصينَ لَهُ الدّينَ} كائنين في صورة من يخلص الدين للّه من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا اللّه ولا يدعون معه إلها آخر. وفي تسميتهم مخلصين: ضرب من التهكم {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلَى الْبَرّ} وآمنوا عادوا إلى حال الشرك: واللام في {ليَكْفُرُوا} محتملة أن تكون لام كى، وكذلك في {وَليَتَمَتَّعُوا} فيمن قرأها بالكسر. والمعنى: أنهم يعودون إلى شركهم ليكونوا- بالعود إلى شركهم- كافرين بنعمة النجاة، قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة: إذا أنجاهم اللّه أن يشكروا نعمة اللّه في إنجائهم، ويجعلوا نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد الطاعة، لا إلى التمتع والتلذذ، وأن تكون لام الأمر وقراءة من قرأ وليتمتعوا بالسكون تشهد له. ونحوه قوله تعالى: {اعْمَلُوا ما شئْتُمْ إنَّهُ بما تَعْمَلُونَ بَصير}. فإن قلت: كيف جاز أن يأمر اللّه تعالى بالكفر وبأن يعمل العصاة ما شاءوا، وهو ناه عن ذلك ومتوعد عليه؟ قلت: هو مجاز عن الخذلان والتخلية، وأن ذلك الأمر متسخط إلى غاية. ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر، وعندك أنّ ذلك الأمر خطأ، وأنه يؤدى إلى ضرر عظيم، فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه، فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم، حردت عليه وقلت: أنت وشأنك وافعل ما شئت، فلا تريد بهذا حقيقة الأمر. وكيف والآمر بالشيء مريد له، وأنت شديد الكراهة متحسر، ولكنك كأنك تقول له: فإذ قد أبيت قبول النصيحة، فأنت أهل ليقال لك: افعل ما شئت وتبعث عليه، ليتبين لك- إذا فعلت- صحة رأى الناصح وفساد رأيك.

.[سورة العنكبوت: آية 67]:

{أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ منْ حَوْلهمْ أَفَبالْباطل يُؤْمنُونَ وَبنعْمَة اللَّه يَكْفُرُونَ (67)}.
كانت العرب حول مكة يغزو بعضهم بعضا، ويتغاورون، ويتناهبون، وأهل مكة قارّون آمنون فيها، لا يغزون ولا يغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب، فذكرهم اللّه هذه النعمة الخاصة عليهم، ووبخهم بأنهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه، ومثل هذه النعمة المكشوفة الظاهرة وغيرها من النعم التي لا يقدر عليها إلا اللّه وحده مكفورة عندهم.